لبنان والحرب العالمية الثانية
هُزمت فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية أمام قوات ألمانيا، وتشكلت حكومة فرنسية موالية للألمان، فأصبحت أكثر المستعمرات الفرنسية، ومراكز النفوذ الفرنسي، ومنها سوريا ولبنان تحت سيادة حكومة فيشي. أرسلت حكومة فيشي إلى سوريا ولبنان مندوبًا ساميًا ليعمل على إدارة البلاد وسياستها في ظل الحكومة الفرنسية. ولم يدم حكم حكومة فيشي طويلاً؛ إذ تمكنت القوات الفرنسية الحرة التي كان يتزعمها الجنرال ديجول ومعها القوات البريطانية من دخول بلاد الشام، وإسقاط الوضع القائم فيها، وعين الحلفاء الجنرال كاترو مندوبًا ساميًا جديدًا على سوريا ولبنان. وقد أذاع الجنرال الذي كان يمثل حركة فرنسا الحرة بيانًا وعد فيه اللبنانيين والسوريين بالاستقلال. وقد حاول الفرنسيون الإبطاء في الإعلان عن الاستقلال التام. لكن الشعبين السوري واللبناني أصرا على ذلك، فاضطر الفرنسيون إلى إعلان استقلال لبنان وسوريا عام 1941م.
استقلال لبنان
على الرغم من أن لبنان نال استقلاله من فرنسا عام 1941م، إلا أن الأمور ظلت غير مستقرة. فقد تقدمت الحكومة اللبنانية بمذكرة رسمية إلى الحكومة الفرنسية تطالب فيها بتعديل الدستور اللبناني من جديد حتى يتواءم مع الظروف اللبنانيّة التي أعقبت إعلان الاستقلال. لكن الفرنسيين لم يكترثوا بهذا الأمر وظلوا يماطلون ويسوِّفون، واقترحوا فكرة توقيع معاهدة فرنسية ـ لبنانية جديدة تحل محل معاهدة عام 1936م. لكن الحكومة اللبنانية رفضت هذا المطلب الفرنسي، وبعثت والحكومة السورية مذكرة مشتركة إلى الحكومة الفرنسية تطالبان فيها بتحويل المفوضية الفرنسية العامة في كل منهما إلى دار تمثيل دبلوماسي، ممّا أزعج الفرنسيين. وبعد مشاورات وضغوط سورية ولبنانية مشتركة تقرر تنفيذ مبدأ الاستقلال. فانتخب مجلس نيابي جديد عام 1943م، وانتخب رئيس للجمهورية في 21 سبتمبر عام 1943م، هو الشيخ بشارة الخوري. وألفت حكومة لبنانية جديدة برئاسة رياض الصلح.
أخذت وزارة الصلح تنظم أمور البلاد على أساس الاستقلال بدلاً من التبعية لحكومة الانتداب الفرنسي. وطلبت من المجلس النيابي تعديل الدستور اللبناني كي يتمشى مع ظروف الدولة اللبنانية المستقلة، وكان ذلك في 8 نوفمبر عام 1943م. لكن الحكومة الفرنسية لم توافق على مشروع تعديل الدستور اللبناني، ووجه نائب المفوض السامي الفرنسي إنذارًا إلى الحكومة اللبنانية لوقف مشروع تعديل الدستور، وقد دعم مجلس النواب اللبناني الحكومة اللبنانية وموقفها الرامي إلى تعديل الدستور ليتـناسب مع مرحلة الاستقلال. فأقر المجلس النيابي تعديل الدستور المعروض عليه، وأعلن ذلك رئيس الجمهورية اللبنانية.
أصدر المفوض السامي الفرنسي تعليماته بحل مجلس النواب وتعليق العمل بالدستور واعتقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح عام 1943م، كما اعتقل كميل شمعون وعادل عسيران. وفي صباح يوم 11 نوفمبر عام 1943م تجمع النواب والوزراء برئاسة صبري حمادة رئيس مجلس النواب، وطالبوا بإلغاء الإجراءات التعسفية التي مارسها المفوض السامي الفرنسي. وأحاطت جماهير الشعب اللبناني بمجلس النواب، وهتفوا بإطلاق سراح المعتقلين، مرددين شعارات الحرية والاستقلال. قام صبري حمادة ورفاقه بتغيير علم لبنان الذي وضع في ظل الاحتلال بعلم لبناني جديد يحمل مفهومًا وطابعًا لبنانيًا، فصار علم لبنان مؤلفًا من ثلاثة أقسام أفقيّة: الأحمر، والأبيض، والأحمر، وفي الوسط أَرْزَة خضراء داخل اللون الأبيض، ويرمز اللونان الأحمر والأبيض إلى لوني علم فخر الدين: الأحمر شعار القيسيّة، والأبيض شعار اليمنيّة.
رفع رئيس مجلس النواب ورفاقه مذكرة شديدة اللهجة إلى ممثل الحكومة الفرنسية في لبنان، وإلى الدول العربيّة الشقيقة المجاورة استنكروا فيها أعمال البطش التي يمارسها الجنود الفرنسيون والشرطة اللبنانية المساندة للمفوض الفرنسي. وأرسلوا مذكرة أخرى إلى سفيري بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، وإلى حكومتي مصر والعراق، شرحوا فيها الوضع المتردي في لبنان، وسوء تصرف المفوضية العامة الفرنسية في لبنان، والإجراءات التعسفية وغير القانونية التي مارسها المفوض السامي الفرنسي في لبنان والمسؤولون الفرنسيون فيه. وقد أيد الشعب اللبناني بكل طوائفه وفئاته الإجراءات الوطنيّة التي اتخذتها حكومته، وما قام به أعضاء مجلس النواب من إجراءات أثناء اعتقال رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ورئيس حكومته وغيرهما من الأحرار. وعمت الفوضى والاضطرابات كل أرجاء لبنان، خاصة في بيروت. واضطر كاترو إلى المجيء إلى بيروت لدراسة الوضع القائم فيها، وإجراء خطوات سريعة لحل المسألة اللبنانية.
وتحت ضغط الاضطرابات الشعبيّة اللبنانيّة، والضغوط الدوليّة التي مورست على الحكومة الفرنسيّة، اضطرت فرنسا بعد أحد عشر يومًا من الأحداث إلى إعادة الحكومة الشرعيّة اللبنانيّة، والعمل بالدستور المعدل، واعادة مجلس النواب اللبناني. وظل الوضع كذلك إلى أن أجليت القوات الفرنسية كلها عن لبنان في آخر شهر ديسمبر عام 1946م، أي بعد حوالي خمسة أشهر من جلائها عن سوريا.
أما عن المجلس النيابي اللبناني بعد الاستقلال فأصبح يتألف من 99 نائبًا ينتخبون على أساس طائفي، ولمدة أربع سنوات. فيمثل النصارى 54 نائبًا، ويمثل المسلمين 45 نائبًا. إن توزيع النواب لم يكن يعبر عن عدد السكان بقدر ما وزع بناءً على المفهوم الطائفي، وبشكل غير متوازن.
وبمقتضى هذا العرف الجديد المرتبط بالدستور اللبناني الجديد يكون رئيس الجمهورية من الموارنة. وهو رئيس السلطة التنفيذية. وقد خصص منصب رئيس الوزراء اللبناني للمسلمين السنة، كما خصص منصب رئيس المجلس النيابي للمسلمين الشيعة. أما نائب المجلس النيابي فيكون للنصارى الأورثوذكس الشرقيين. وتشير الإحصاءات التقديرية إلى أن نسبة السكان المسلمين في لبنان زادت على نسبة السكان النصارى، إذ تقدر نسبة السكان المسلمين بـ 62%، لكن التقليد المعمول به منذ الاستقلال في توزيع المناصب السياسية قد بقي على ما هو عليه.